القول الثاني : من كان مطيقاً للصيام ولا يكلفه ولايشق عليه فالصيام أفضل وأما إن كان يشق عليه أويضعفه عن الدعاء فإنه مكروه حينئذٍ وهذه رواية عن الإمام أحمد رحمه الله .
القول الثالث : في المسألة أن الصيام محرم وإن كان مطيقاً له وهذا مروي عن يحيى بن سعيد وهو قول طائفة من أهل الظاهر، وهذا مايدل عليه حديث الباب لو كان صحيحاً فإن الأصل في النهي أن يكون للتحريم ويستدل لهذا القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصم يوم عرفات ففي الصحيحين وغيرهما من حديث أم الفضل قالت تنازع الناس يوم عرفات هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم (صائماً أم لا فبعثت إليه بإناء فيه لبن فشرب وهو واقف على بعيره ) .
فهذا الخبر يفيد أن النبي لم يصم يوم عرفة والله يقول { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } .
ومما يشهد لهذا القول أن عمر رضي الله عنه ( كان ينهى عن صوم يوم عرفة ). رواه النسائي رحمه الله في الكبرى . وجاء هذا أيضاً عن ابن عمر رواه النسائي أيضاً .
وروى النسائي أيضاً حديث نافع عن ابن عمر أنه سئل عن صوم يوم عرفة بعرفات فقال : ( لم يصم النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ) .
يقصد ابن عمر رضي الله عنهما أنك لا تصمه فهل أنت أعلم من هؤلاء أو أفقه من هؤلاء أو أحرص على الخير من هؤلاء ، وهؤلاء لم يصوموا وهم خيار الأمة وساداتها وعظماؤها .
القول الرابع : استواء الأمرين الصيام والفطر .
القول الخامس : استحباب الصيام وهذا مروي عن عبدالله بن الزبير وعن عائشة وعن جماعة من الأفاضل رضي الله عنهم .
والقول الصحيح أن الصيام في يوم عرفة للحاج غير مشروع ولا مستحب والفطر أفضل ليتقوى على الدعاء والعبادة والله أعلم .
648/ وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا صام من صام الأبد ) متفق عليه ولمسلم من حديث أبي قتادة بلفظ (لا صام ولا أفطر ) .
هذا الحديث وقع في بعض نسخ البلوغ بأنه عن عبدالله بن عمر وهذا يقتضي أن يكون ابن الخطاب ولكن الصحيح أنه من مسند عبدالله بن عمر وبن العاص.
قال الإمام البخاري رحمه الله حدثنا عمرو بن علي قال أخبرنا أبو عاصم عن ابن جريج عن عطاء أن أبا العباس الشاعر أخبره أنه سمع عبدالله بن عمرو فذكره. وقال مسلم رحمه الله حدثنا محمد بن رافع قال أخبرنا عبدالرزاق عن ابن جريج به.
وحديث أبي قتادة رواه مسلم في صحيحه من حديث حماد بن زيد عن غيلان عن عبدالله بن معبد عن أبي قتادة رضي الله عنه .
قوله [ لا صام من صام الأبد ] .
لفظ مسلم [ لا صام ولا أفطر ] فقيل عن هذه الجملة بأنها دعائية فيكون المعنى بأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليه بأنه لا صام ولا أفطر، ولايخفى أن من دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لايفلح ولايكون إلاّ في تباب، وقيل المعنى ( لاصام ولاأفطر ) حيث أنه لم يطعم ولم يشرب ولم يجامع، وعلى المعنيين جميعاً يكون الخبر خرج مخرج الذم لمن صام الدهر وهذا بلا ريب باستثناء العيدين وأيام التشريق لأنه لو كان المعنى مع صيام هذه الأيام لايمكن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقول ( لا صام ولا أفطر ) لأن العلماء مجمعون إتباعاً لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن صيام يوم العيدين محرم وأنه باطل وقد تقدم أيضاً أن الجمهور يحرمون أيضاً صيام أيام التشريق للحاج وغيره وإنما اختلفوا في المتمتع إذا لم يجد الهدي .
وقد اختلف الفقهاء فيمن صام الدهر باستثناء العيدين هل فعله محمود أم مذموم على مذاهب .
المذهب الأول : استحباب صيام الدهر وهذا اختيار ابن المنذر رحمه الله وأصحاب هذا القول احتجوا بحديث حمزة الأسلمي وقد سبق ( أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يارسول الله إني أسرد الصوم فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم بالصيام ) .
ولكن يمكن الإيجابة عن هذا الحديث بأن سرد الصوم لايقتضي صيام الدهر فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم حتى يقول القائل لايفطر .
واستدلوا أيضاً بقوله صلى الله عليه وسلم ( من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر ) . وفي هذا نظر لأن التشبيه بالثواب لايقتضي وقوع التشابه أوالتناسب من كل وجه واستدلوا أيضاً بأدلة أخرى لا يتسع هذا المقام لذكرها .
المذهب الثاني : تحريم صيام الدهر وهذا مروي عن ابن حزم وطائفة من أهل العلم لحديث أبي سعيد الخدري عند أحمد والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من صام الدهر ضيقت عليه جهنم ) .
إلا أن العلماء اختلفوا في تفسير هذا الحديث فقيل المعنى ( ضيقت عليه جهنم) أي فلا يدخلها من أجل صومه فإن الصيام جنة .
وقيل المعنى يدخل جهنم فتضيق عليه لمخالفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم فقد قال صلى الله عليه وسلم لمن يصوم الدهر ( ومن رغب عن سنتي فليس مني ) ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هديهُ قال : ( أما أنا فأصوم وأفطر ) والحديث في الصحيحين من حديث أنس .
واستدل أصحاب هذا القول بحديث الباب .
المذهب الثالث : أن الحكم يختلف باختلاف الأشخاص فمن كان لايشق عليه الصيام أذن له وإلا منع منه .
والأظهر في المسألة من حيث الأدلة منع صيام الدهر وذلك لوجوه .
الوجه الأول : عموم قوله صلى الله عليه وسلم ( لاصام ولا أفطر ) يمنع من صيام الدهر .
الوجه الثاني : عموم قوله صلى الله عليه وسلم ( من صام الدهر ضيقت عليه جهنم ) فإن هذا الحديث فيه شديد الوعيد لمن صام الدهر .
الوجه الثالث : أن صيام الدهر يخالف هديه صلى الله عليه وسلم فقد كان صلى الله عليه وسلم يصوم ويفطر .
الوجه الرابع : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : فيمن يصوم الدهر متعبداً بذلك قال : من رغب عن سنتي فليس مني .
الوجه الخامس : أن النبي صلى الله عليه وسلم ( جعل أفضل الصيام صيام داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً ) وقد قال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو لا أفضل من ذلك .