[size=21]5/
المذهب الأول : تحريم الصوم في السفر مطلقاً ومن صام فعليه القضاء .
وهذا مذهب جماعة من أهل الظاهر لقول الله جل وعلا { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } ( البقرة ) .
قالوا دلت هذه الآية على وجوب القضاء على المسافر ولم يذكر الله تعالى الإفطار بينما قدر جمهور العلماء الآية ( فمن كان منكم مريضاً أوعلى سفر فأفطر
وسياق الآيات يدل على هذا أما أهل الظاهر فقالوا إن صام في السفر فعليه القضاء لأن الفطر يلزمه .
واستدلوا أيضاً بحديث جابر السابق ( أولئك العصاة أولئك العصاة ) واستدلوا أيضاً بحديث جابر في الصحيحن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ليس من البر الصيام في السفر ) .
المذهب الثاني : عكس هذا المذهب أن الصيام واجب في السفر فلا يجوز الفطر في السفر إلا عند المشقة .
المذهب الثالث : تجويز الأمرين إلا أن الصيام أفضل من الفطر .
وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وذكره ابن حجر في فتح الباري عن جمهور العلماء ورجحه .
وقد استدل أصحاب هذه القول بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصوم في السفر وأن عبدالله بن رواحه كان يصوم في السفر وأن أنس بن مالك كان يصوم في السفر .
واستدلوا أيضاً بحديث الباب .
فلو كان الصيام في السفر مكروهاً أوخلاف الأولى لأرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك حمزة الأسلمي .
المذهب الرابع : تجويز الأمرين إلا أن الفطر أفضل .
وهذا مذهب الإمام أحمد رحمه الله وقد تقدم .
المذهب الخامس : أن يفعل المسافر ماهو الأرفق به فإن كان الصيام أرفق به ولايشق عليه بل لو أفطر لشق عليه القضاء فيما بعد فالصيام حينئذ أرفق بحقه وإن كان الصيام يشق عليه أويضعفه عن بعض العبادات المهمة فالفطر في حقه أفضل.
وهـذا مذهب أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز رحمه الله واختار هذا القول الإمام ابن المنذر رحمه الله .
وهذا المذهب أعدل المذاهب وبه يحصل الجمع بين الأدلة .
وأما إن كان الصيام يشق عليه وصام فهذا لايجوز وعليه ينزل حديث (ليس من البر الصيام في السفر) وحديث ( أولئك العصاة أولئك العصاة ) .
وأما إذا لم يجد مشقه فعليه ينزل صيام النبي صلى الله عليه وسلم وصيام حمزة بن عمرو الأسلمي وصيام أنس وقد روى مسلم في صحيحه أيضاً من حديث أبي النظر عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ( في غزوة في رمضان فمنا الصائم ومنا المفطر فلا يجد الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم ) .
والسبب في هذا أنهم لايجدون مشقة في الصيام ولم ينكر عليهم صلى الله عليه وسلم فعلم جواز الصيام في السفر لمن لايشق عليه بل ربما يكون أفضل من الفطر على حسب التفصيل السابق .
629/ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : رخص للشيخ الكبير (أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكيناً ، ولا قضاء عليه ) .
أثـر ابن عباس رواه الإمام الدارقطني والحـاكم من طريق خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس به .
قال الدارقطني في سننه وهذا إسناد صحيح وقال الحاكم في المستدرك وهذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه .
وقد روى الدارقطني وغيره من طريق سعيد وهشام عن قتادة أن أنس بن مالك حين كبر أفطر وأمر أهله أن يطعموا عن كل يوم مسكينا . قال هشام في حديثه : فأطعم ثلاثين مسكيناً وروى أبو عبيد في الناسخ عن عبدالله بن صالح عن الليث عن يحيى بن سعيد في ذلك قال : يطعم كل يوم مُدّاً من حنطة قال قال ذلك أبو بكر ابن محمد بن عمرو بن حزم عن أشياخ الأنصار قال أبو صالح وهو قول الليث قال أبو عبيد وكذلك قول مالك حدثنيه عنه ابن بكير وابن أبي مريم وقد يلحق بهؤلاء أهل العطاش الذين يخاف عليهم منه الموت .
وفي صحيح البخاري من حديث عمرو بن دينار عن عطاء أنه سمع ابن عباس يقرأ { وعلى الذين يُطوّقونه فدية طعام مسكين } قال ليست بمنسوخه إنما هي في الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لايستطيعان أن يصوما فيطعمان عن كل يوم مسكيناً". فالكبير الذي لا يستطيع الصوم وفي حكمه المريض الذي لا يُرجئ برؤه يفطران ويطعمان عن كل يوم مسكيناً ولو أطعم ثلاثين مسكيناً في جفنة أجزأ وقد فعله أنس رضي الله عنه رواه الدارقطني . وقد ذكر ابن القيم رحمه الله وغيره أنه لايصار إلى الإطعام إلا عند اليأس من القضاء، وأما المريض الذي يُرجى برؤه فلا فدية عليه فإذا قدر على الصوم لزمه وجوباً لقوله تعالى : { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } بقيت مسألة مهمة وهي أنه ثبت عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما أنهما قالا في المرضع والحامل يفطران ويطعمان عن كل يوم مسكيناً ولا قضاء عليهما رواه الدارقطني وصححه فظاهر هذا يخالف ظاهر قول الله تعالى { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ }
والجواب أن العلماء رحمهم الله مختلفون في قضية القضاء في حق الحامل والمرضع فذهب الأئمة الأربعة إلى أنهما يقضيان الحاقاً لهما بالمسافر والمريض فقد دلت الآية السابقة على وجوب القضاء على المريض والمسافر وهذا مما أجمع عليه أهل العلم رحمهم الله ولكن اختلفوا في الحامل والمرضع فألحقهما الأئمة الأربعة بالمريض والمسافر فهم بمنزلة واحدة والصيام فرض على الجميع فلا يسقط إلا عن الذي لايطيق فحينئذٍ يعدل إلى الفدية وماثبت عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما أنهما قالا لا قضاء عليهما يمكن أن يكون اجتهاداً منهما ويمكن أن يكون عن أمر توقيفي لأن ابن عباس فسر آية البقرة بالشيخ الكبير والمرأة الكبيرة فكأنه رحمه الله يرى خصوصيتها بالمريض والمسافر ولا يبعد أن يقال لامجال للاجتهاد في هذه القضية وكيف يتفق صحابيان فقيهان على هذا الأمر إلا عن أمر توقيفي، وقول الجمهور أحوط فالأولى للحامل والمرضع إذا أفطرتا أن تقضيا لأن الصيام فرض ثلاثين يوماً أوتسعاً وعشرين فيجب أداء هذا بيقين فلا يترك لأمر مظنون وأما الإطعام فلا يجب على القول الراجح إذا قضتا وإنما يلزم عند عدم القضاء .
630/ وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( هلكت يارسول الله . قال : وما أهلكك ؟ قال وقعت على امرأتي في رمضان . فقال : هل تجد ما تعتق رقبة ؟ قال : لا . قال : فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ قال : لا قال : فهل تجد ماتطعم ستين مسكيناً ؟ قال : لا ، ثم جلس ، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر فقال (تصدق بهذا) فقال : أعلى أفقر منا ؟ فما بين لا بتيها أهل بيت أحوج إليه منا ، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه . ثم قال : (اذهب فأطعمه أهلك ) .
هذا الحديث متفق على صحته .
قال الإمام البخاري رحمه الله حدثنا أبو اليمان قال حدثنا شعيب عن الزهري عن حميد بن عبدالرحمن عن أبي هريرة به .
وقال الإمام مسلم رحمه الله حدثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر ابن أبي شيبة وزهير بن حرب وابن نمير كلهم عن ابن عيينة .
قال يحيى أخبارنا سفيان ابن عيينة عن الزهري به .
والحديث رواه عن الزهري جمع كثير يتجاوزون أربعين نفساً كما أشار إلى هذا ابن القيم رحمه الله في تهذيب السنن كلهم رواه عن الزهري عن حميد بن عبدالرحمن بنحو ماذكر .
خالفهم هشام بن سعد كما عند أبي داود فرواه عن الزهري عن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن أبي هريرة وزاد ( وصم يوماً ) أي مكان ما أفطرت وهذه الزيادة طعن فيها أكابر الحفاظ وهو الحق فلا يرتاب طالب علم فضلاً عن عالم بشذوذها ونكارتها فأصحاب الزهري الكبار منهم مالك وابن عيينة وابن جريج وشعيب ومعمر والليث وعقيل بن خالد هؤلاء حفاظ الحديث يروون هذا الخبر عن الزهري بدون ماذكره هشام بن سعد ولو كان ابن سعد ثقة لحكم على الرواية بالنكاره فكيف وهو سيء الحفظ أيضاً فقد طعن فيه الإمام أحمد وجماعة من الحفاظ، وقد تابعه على هذه الرواية مـن لايعتد به .
قوله [ هلكت ] .
احتج بهذه الرواية جماعة من أهل العلم على أنه كان متعمد الجماع وهذا قول جماهير العلماء، وقد ذهب أحمد في رواية وبعض المالكية إلى أن الكفارة الموجودة بهذا الخبر لازمة للعامد وغيره وفي هذا نظر لأن في الحديث قرائن تدل على أنه متعمد وأما الناسي أو الجاهل فالحق أنه لا كفارة عليه كما هو قول الجمهور واختار هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهذا اختيار الحافظ ابن حجر قال ابن القيم لأن الجماع كما سبق بمنزلة الأكل والشرب نسياناً فمن شرب أو أكل ناسياً فلا قضاء ولا كفارة عليه كما سبق تقريره .
قوله [ وقعت على أهلي ] .
هذا الوقاع وقع في رمضان ولا تلزم الكفارة إلا لمن واقع في رمضان خاصة فلو أن أمرأ واقع في قضاء رمضان فلا تلزمه كفارة وكذلك لو واقع في صيام نفل أو نذر أوغير ذلك فلا تلزم الكفارة إلا لمن واقع في نهار رمضان وذلك لحرمة الشهر ويشترط في إيجاب الكفارة أن يطأ في الفرج ولو وطأ عن طريق الزنا أعاذنا الله وإياكم من ذلك لوجبت عليه الكفارة أيضاً .
قوله [ هل تجد ماتعتق رقبة ؟ ] .
هذه الكفارة على الترتيب عند أكثر أهل العلم وهو اختيار ابن القيم رحمه الله وذهبت طائفة من أهل العلم إلى أنها على التخيير، والقول الأول أظهر .
وقد قال أبو حنيفة رحمه الله على قوله صلى الله عليه وسلم ( هل تجد ماتعتق رقبة ) أنه لايشترط الإيمان في هذه الرقبة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل مؤمنة فلما أطلق استفيد من اطلاقه العموم . وخالفه في ذلك الجمهور فقالوا لاتجزئ إلا المؤمنة واختار هذا ابن القيم رحمه الله، وقد الحق الجمهور رقبة المجامع في رمضان ورقبة المظاهر برقبة القاتل وهذا مبني على قاعدة حمل المطلق على المقيد .
والصحيح في هذه القضية أن المطلق لايحمل على
المقيد إلا مع اتحاد الحكم والسبب وإلى هذا أشار في المراقي فقال :
وحمل مطلق على ذاك وجب إن فيهما اتحد حكم والسبب
قوله : [ قال : لا ] .
في هذا دليل على أنّ من لم يستطع عتق الرقبة لزمه شيء آخر ألا وهو الصيام فيصوم شهرين متتابعين لا يفطر بينهما إلا لعذر كمرض وغيره فإن أفطر لغير عذر لزمه الإعادة من جديد عند أكثر أهل العلم كما هو قول الحنابلة والشافعية والمالكية وقد ذكره بعض أهل العلم إجماعاً .