قوله [ إذا رأيتموه فصوموا ] .
في هذا دليل على إبطال الحساب في دخول الشهور وخروجها وأنه لابدَّ من الرؤية وقد اتفق الأئمة الأربعة رحمهم الله على تحريم الاعتداد بالحساب واتفقوا على أن الحساب لايعتد به في الشهور لا في رمضان ولافي غيره وأن المعتبر في هذا هو الرؤية . لقولـه صلى الله عليه وسلم : [ صوموا لرؤيته ] . وقد احتج بالحديث بعض الأئمة كأحمد وغيره على أن رؤية الهلال في بلد تكفي عن رؤيته في البلاد الأخرى. وذلك لعموم قوله : ( صوموا لرؤيته ) . وأهل العلم اختلفوا في هذه المسألة على مذاهب :
الأول : ماتقدم ذكره وهو قول أحمد والمشهور عن المالكية أنه إذا رآه أهل بلد لزم أهل البلاد الأخرى مالزمهم .
الثاني : أن لكل بلد رؤيتهم وهذا مذهب ابن عباس والقاسم بن محمد وإسحاق بن راهويه ، ودليل هذا مارواه مسلم في صحيحه من طريق محمد بن أبي حرملة عن كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام قال فقدمت الشام فقضيت حاجتها واستهل علىّ رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجعمة ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ثم ذكر الهلال فقال متى رأيتم الهلال فقلت رأيناه ليلة الجمعة فقال أنت رأيته فقلت نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية فقال لكنّا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أونراه فقلت أولا تكتفي برؤية معاوية وصيامه فقال لا هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فابن عباس لم يعمل برؤية أهل الشام وكان حاكم المسلمين واحداً ولا ذكر عن أحد من الصحابة مخالف لابن عباس قال الترمذي في جامعه ( والعمل على الحديث عند أهل العلم أن لكل أهل بلد رؤيتهم ) وقوله هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتمل أن ابن عباس حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً على أنه لايلزم أهل بلد العمل برؤية أهل البلاد الأخرى ، ويحتمل أن يكون قاله اجتهاداً وفهماً .
القول الثالث : أنه إذا اتفقت المطالع لزمهم الصوم وإلا فلا وهذا المشهور عند فقهاء الشافعية واختاره ابن تيمية وفيه أقوال أخرى وأظهرها القول الثاني ولاسيما في هذا العصر حين صار لكل بلد حاكم يحكمه والكثير يعتمدون على الحساب دون الرؤية ، وأما الذين يعيشون في غير البلاد الإسلامية فيمسكون مع أقرب بلد إسلامي فإن لم يكن فيتابعون أهل مكة ولو اجتهدوا في رؤية الهلال وصاموا على تحريهم لأجزأ ذلك والله أعلم .
قوله : [ وإذا رأيتموه فأفطروا ] .
ماقيل في الصيام يقال في الفطر أيضاً فلابد من رؤيته بالأبصار وهل تصح رؤيته بالمنظار والمكبرات والأشياء المقربة هذه آلات حادثة لم يتكلم عليها الأوائل رحمهم الله ولكن من حيث الدليل والتعليل الصحيح أنه يعتد بهذه المكبرات في
قوله : [ فإن غم عليكم فاقدروا له ] .
ذهب بعض فقهاء الحنابلة إلى أن المعنى ( ضيقوا عليه ) ومن ثم جوز هؤلاء بل استحبوا صيام يوم الشك وفي هذا نظر فقد تقدم تحريم صيام يوم الشك لحديث عمار وقد تقدم صحته وأما تفسيرهم فاقدروا له بمعنى ضيقوا عليه فهذا غلط أيضاً لأنه جاء في الأحاديث الصحاح مايفسر هذه اللفظة وأن المعنى [ فأكملوا عدة شعبان ثلاثين ] هكذا ذكره ابن عمر وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والحديث يدل على النهي عن صيام يوم الشك وأن الواجب عندما يحول الغيم دون رؤية الهلال أن نتم العدة وتمام العدة أن تكمل عدة شعبان ثلاثين يوماً .
611/ وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : تراءى الناس الهلال، فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته، فصام، وأمر الناس بصيامه ) .
هذا الحديث رواه الدارمي وأبو داود والحاكم والبيهقي والدارقطني كلهم من طريق يحيى بن عبدالله بن سالم قال حدثنا أبو بكر بن نافع عن أبيه عن ابن عمر به وصححه ابن حبان والحاكم. ويحيى بن عبدالله قال عنه يحيى بن معين صدوق ضعيف الحديث وقال عنه النسائي مستقيم الحديث ووثقه الإمام الدارقطني رحمه الله وذكـر عنه الحافظان الذهبي وابن حجر عليهما رحمة الله بأنه صدوق . وبقية رجاله ثقات . والحديث إسناده صحيح .
وقد ذكر الإمام أبو محمد بن حزم رحمه الله بأن الخبر صحيح ذكر ذلك عنه الحافظ في التلخيص ولم يتعقبه بشيء .
والحديث يدل على الإجتزاء بشاهد واحد في دخول رمضان وتجزئ المرأة في هذا وبهذا قال أكثر العلماء كأحمد والشافعي في أحد قوليه وأبي حنيفة وجماعة من أهل الفقه والنظر بينما ذهب الإمام مالك رحمه الله وطائفة من أهل العلم إلى أنه لابد من شاهدين في الدخول كما أنه لابد من شاهدين في الخروج واستدل رحمه الله بحديث ابن عمر السابق [ صوموا لرؤيته ] ويشترط في الرائي أن يكونوا جمعاً، والجمع عندهم إثنان فأكثر أما الواحد فلا يعتد في رؤيته والصحيح القول الأول وحديث ابن عمر صحيح صريح وهو مفسّر لحديث ( صوموا لرؤيته ) فيجب القول به والعمل بمقتضاه لأن الدخول مبني على الاحتياط ومن الاحتياط أن نتعجل دخوله بشاهد واحد ولو امرأة ولايشترط قبول الشهادة بلفظ الإشهاد أوقبول قول القائل بلفظ الاشهاد بل بمجرد إخباره إذا كان مستقيماً مسلماً نقبل قوله ولا نقول له اشهد بأنك رأيته فإن هذا ليس عليه دليل صحيح .
612/ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلـم فقال : ( إني رأيت الهلال فقال : ( أتشهد أن لا إله إلا الله قال : نعم . قال ( أتشهد أن محمداً رسول الله : قال : نعم . قال : فأذن في الناس يابلال : أن يصوموا غداً ) .
هذا الخبر رواه الإمام أحمد وأهل السنن من طريق زائده بن قدامة عن سماك ابن حرب عن عكرمة عن ابن عباس به .
وصححه ابن خزيمة وابن حبان وذكر الإمام أبو داود رحمه الله في سننه بأن جماعة رووه عن سماك عن عكرمة مرسلاً .
قال الترمذي في جامعه وأكثر أصحاب سماك يروونه عنه عن عكرمة مرسلاً وصوّب هذا الإمام النسائي رحمه الله وهو الحق فقد رواه الإمام النسائي في سننه من طريق سفيان ورواه أبو بكر بن أبي شيبة من طريق إسرائيل .
ورواه أبو داود من طريق حماد ثلاثتهم عن سماك بن حرب عن عكرمة مرسلاً ومن أرسله أضبط وأحفظ وأكثر ممن وصله فتعين بهذا ترجيح إرساله إلا أنه يشهد له حديث ابن عمر السابق .
والحديث دليل على الإكتفاء برؤية هلال رمضان بشهادة واحد ودليل على أنه لايقبل بالشهادة إلا مسلم لقوله أتشهد أن لا إله إلا الله قال نعم قال أتشهد أن محمداً رسول الله قال : نعم فلم يقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله حتى نطق بالشهادتين ويكفي على الصحيح مجرد العلم بالإسلام دون نطق بالشهادتين. وفي الحديث دليل أيضاً على الاكتفاء بصلاح الظاهر . وفي الحديث دليل أيضاً على أنه يتعين على إمام المسلمين أن يعلن دخول شهر رمضان لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلالاً أن ينادي بأن يصوموا غداً .
وفي الحديث دليل أيضاً على أن الشرائع لا تلزم إلا بعد البلوغ وهذا هو اختيار شيخ الإسلام رحمه الله فإذا لم يعلموا بدخول شهر رمضان إلا في أثناء النهار فيلزمهم الإمساك دون القضاء لأنه لم يرد في الحديث ولا غيره أمرهم بالقضاء وقيل يقضون هذا اليوم وهو مذهب الأئمة الأربعة وذلك لاستكمال صيام الشهر، وقياساً على صيام عاشوراء، بينما ذهب شيخ الإسلام رحمه الله إلى القاعدة المتقدمة بأن الشرائع لاتلزم إلا بعد البلوغ فمن لم يعلم عن دخول شهر رمضان إلا بعد منتصف النهار فيمسك ولا قضاء عليه وأمّا أمره صلى الله عليه وسلم بالقضاء في يوم عاشوراء . فالحديث رواه أبو داود وغيره ولايصح.
613/ وعن حفصة أم المؤمنين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له ) .
هذا الحديث رواه أحمد وأهل السنن وابن خزيمة وابن حبان والدارقطني والبيهقي والحاكم كلهم من طريق ابن وهب عن يحيى بن أيوب وتابعه ابن لهيعة عند أبي داود عن عبدالله بن أبي بكر بن حزم عن الزهري عن سالم بن عبدالله عن ابن عمر عن حفصة به .
قال أبو داود رحمه الله وأوقفه عـلى حفصة معمر والزبيدي وابن عيينة ويونس كلهم عن الزهري .
واختار وقفه الإمام البخاري وقال عن رفعه بأنه مضطرب والإمام النسائي والترمذي في جامعه وابن عبد البر وغيرهم من أكابر المحدثين .وصححه مرفوعاً ابن خزيمة وابن حبان وابن حزم والحاكم وغيرهم .
والصحيح وقفه على ابن عمر وعلى حفصة أما وقفه على ابن عمر فقد رواه مالك في الموطأ عن نافع عن ابن عمر به وهذا إسناد صحيح .
وأما وقفه على حفصة فقد جاء عنها عند النسائي وغيره من طريق عبدالله عن سفيان ابن عيينة ومعمر وجماعة كلهم يروونه عن الزهري عن حمزة عن ابن عمر عن حفصة به وهذا إسناد صحيح .
ولايعلم لحفصة وابن عمر مخالف من الصحابة، ولذلك ذهب جماهير أهل العلم بما فيهم الأئمة الأربعة على أن صيام الفرض لايجزئ إلا بنية قبل طلوع الفجر، فمن نوى صيام الفرض بعد طلوع الصبح فلا يصح، ولكن كما قال شيخ الإسلام أن النية تتبع العلم والشرائع لا تلزم إلا بعد البلوغ فمن لم يعلم أن الليلة من رمضان ونام على هذا فلما استيقظ لصلاة الصبح أخبر يمسك حينئذٍ لأن النية تتبع العلم يقول شيخ الإسلام رحمه الله ولا قضاء عليه .
أما الأئمة الأربعة في هذه الصورة فيرون عليه القضاء