المذهب الأول : أن النهي يقتضي الفساد وهذا مذهب الإمام أحمد رحمه الله.
المذهب الثاني : أن النهي لايقتضي الفساد وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي في المشهور عنهم .
المذهب الثالث : إذا كان النهي متعلقاً بشرط من شروط العبادة اقتضى الفساد وإلا فلا وهذا اخيتار الحافظ ابن رجب رحمه الله .
المذهب الرابع : أن نعتبر كل مسألة بخصوصها وننظر فيها بالقرائن كعمل الصحابة رضوان الله عليهم وهذا المذهب هو الحق فلا نجعل في هذه المسالة قاعدة كلية بل ننظر في عمل الصحابة وننظر في تعاملهم في هذه المسألة فنحكم عليها بذلك .
فمثلاً جاء في صحيح الإمام مسلم رحمه الله عن عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لاينكح المحرم ولا يُنكِح ولايخطب ) .
عمل الصحابة منهم عمر وعلي وعبدالله بن عمر وجماعة بأن نكاح المحرم فاسد فلذلك فسخوا نكاح من تزوج محرماً ففي هذه القضية نأخذ بقول الصحابة رضي الله عنهم، وفيه قول لأهل العلم بجواز نكاح المحرم ولكن عمل الصحابة مقدم على عمل من جاء بعدهم .
وحديث الباب يدلنا على أن أيام التشريق ليست محلاً للصيام كيوم العيدين ليست محلاً للصيام فالصيام حينئذٍ غير صحيح لأنه وضع الصيام في غير محله سواء كان الصيام فرضاً كالقضاء أونفلاً إلاّ أنه يستثنى من ذلك صيام ثلاثة أيام لمن لم يجد الهدي ودليل هذا ماذكره المؤلف رحمه الله في الباب .
641/ وعن عائشة وابن عمر رضي الله عنهما قالا : ( لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي ) .
هذا الخبر رواه البخاري فقال حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا غندر عن شعبة قال سمعت عبدالله بن عيسى عن الزهري عن عروة عن عائشة وعن سالم عن ابن عمر .. الحديث .
فهذا الحديث يدل على جواز صيام ثلاثة أيام في الحج وفي أيام التشريق خاصة لمن لم يجد الهدي وهذا قول الإمام أحمد رحمه الله لأن قولي عائشة وابن عمر (لم يرخص) يقصدان بذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه الصيغة تشعر بأن لهذا الخبر حكم المرفوع ( كقول الصحابي من السنة أونهينا عن كذا أو أمرنا بكذا) .
ومن ثم يقول الحافظ العراقي رحمه الله :
قولُ الصحابي من السنة أو نحو أُمرنا حكمه الرفـعُ ولـو
بعــد النبي قاله بأعصر على الصحيح وهو قول الأكثر
وذهبت طائفة من العلماء إلى تحريم صيام أيام التشريق مطلقاً سواء وجد الهدي أم لم يجده لحديث نبيشة الهذلي وهو عام في حق المتمتع وغيره ولكنّ قولي عائشة وابن عمر أخص منه ويؤيد الجواز ظاهر الآية ( فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ ) .
وذهبت طائفة أخرى إلى جواز صيام أيام التشريق مطلقاً وهذا مروي عن علي وجماعة ولعل أصحاب هذا القول لم يبلغهم خبر نبيشة الهذلي وهو ظاهر في منع صيام أيام التشريق ودل خبر الباب بطريق المنطوق .
على استثناء من لم يجد الهدي وقد قال تعالى : { فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } وهذه الثلاثة يجوز صيامها قبل يوم عرفة كما أنه يجوز صيامها على الراجح في أيام التشريق وأيام التشريق ثلاثة أيام بعد يوم النحر وهذا قول الإمام أحمد في رواية وهو اختيار شيخ الإسلام وابن القيم وهو قول الحافظ ابن كثير عليهم رحمة الله .
642/ وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ولا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم) .
هذا الخبر رواه مسلم فقال حدثنا أبو كريب قال حدثنا حسين ( يعني الجعفي ) قال حدثنا زائدة عن هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم به .
قوله [ لاتخصوا ليلة الجمعة ] .
أخذ من هذا بعض الفقهاء أن النهي خاص بمن يتقصد قيام ليلة الجمعة وأما من قام غير متقصد فلا مانع حينئذٍ، وهذا الذي يدل عليه مفهوم الخبر فالنهي منصب على تخصيص ليلة الجمعة بالقيام وأما ماعدا هذا فلم يُنه عنه وأما الصيام فيختلف عن القيام فحديث الباب يدل على أن النهي لمن خص يوم الجمعة بالصيام وقد ذكر أبو عيسى الترمذي رحمه الله في جامعه عن أهل العلم أنهم يكرهون للرجل أن يختص يوم الجمعة بصيام لايصوم قبله ولا بعده وبه يقول أحمد وإسحاق ولكن جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لايصومنّ أحدكم يوم الجمعة ) .
فهذا الخبر يفيد النهي عن إفراد يوم الجمعة مطلقاً سواء كان عن طريق التخصيص أم لايؤيد هذا ماجاء في الصحيحين عن جويرة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم ( دخل عليها وهي صائمة يوم الجمعة فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم أصمتي أمس يعني الخميس . قالت لا قال أتصومين غداً . يعني السبت . قالت لا قال فأفطري ) .
ولم يستفصل منها النبي صلى الله عليه وسلم هل تقصدت صيام يوم الجمعة أم لا فدل على العموم . ويحتمل تخصيص هذا وما قبله بحديث الباب فيحمل المطلق على المقيد وحينئذٍ يزول الإشكال .
وقد اختلف الفقهاء رحمهم الله هل النهي عن صيام يوم الجمعة للتحريم أما للتنزيه ذهب أكثر أهل العلم إلى أن النهي للتنزيه وجعلوا قوله صلى الله عليه وسلم (إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم ) وكقوله صلى الله عليه وسلم ( أفضل الصيام صيام داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً ) قرينة على صرف النهي عن التحريم للتنزيه.
وذهب الإمام أحمد في رواية إلى أن النهي للتحريم لأنه الأصل واحتج بما ذكر المؤلف رحمه الله .
643/ وعنه أيضاً رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لايصومن احدكم يوم الجمعة، إلا أن يصوم يوماً قبله أويوماً بعده ) .
هذا خبر متفق عليه .
قال البخاري رحمه الله حدثنا عمر بن حفص بن غياث قال حدثنا أبي عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة به .
وقال مسلم رحمه الله حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا حفص وأبو معاوية عن الأعمش ح وحدثنا يحيى بن يحيى واللفظ له قال حدثنا أبو معاوية قال حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة به، ورواه أبو داود والترمذي وابن خزيمة وابن حبان وقال أبو عيسى حديث حسن صحيح .
والحديث يدل على النهي عن إفراد يوم الجمعة بالصيام سواء كان فرضاً أم نفلاً أما إن صام يوماً قبله أو يوماً بعده فلا بأس .
644/ وعنه أيضاً رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا انتصف شعبان فلا تصوموا ) .
هذا الخبر رواه الخمسة وغيرهم من طريق العلاء بن عبدالرحمن بن يعقوب الحرقي مولاهم عن أبيه عن أبي هريرة .
ورواه عن العلا جمع منهم الثوري والدراوردي وأبو عميس وزهير بن محمد وغيرهم قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح ولكن ضعفه الإمام علي بن المديني وأحمد بن حنبل وأكثر الحفاظ وقالوا بأن العلاء وهم فيه والأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم على خلافه، أما العلاء فقد وثقه جمع من الحفاظ وصحح له الإمام مسلم عدة أحاديث بمروياته عن أبيه، ووثقه الترمذي وغيره.
.