:السلام عليكم:
الإسلام والنظام الديمقراطي
بقلم - الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح
د عبدالمنعم أبوالفتوح
الديمقراطية هي نظام غربي ارتبط بنشأة الدولة الأوروبية الحديثة وبسياق تطورها الاقتصادي والاجتماعي، ذلك أن قيام الثورة الصناعية وما تبعه من تغيرات في بنية المجتمع والسلطة والعلاقة بينهما ومع انتشار الفكر التنويري طرح الديمقراطية كآلية لنظام الحكم بصورة عامة، وآلية لتنظيم مسألة السلطة التي تتمكن من تحقيق الحد الأقصى من إقامة العدل بين الناس في توزيع الواجبات والحقوق.. وبسط الحرية وتفعيلها لنقلها من معناها اللفظي المجرد إلى التطبيق الواقعي..
الغرب اكتشف حاجته إلى الديمقراطية كحل تنظيمي لكثير من المشاكل التي واجهته في طريق التطور والتقدم؛ ولذلك اعتمدها في المجال السياسي والاقتصادي وفي تنظيم المجتمعات.
فهل يمنع ذلك المسلمون من الأخذ بها كونها على حد قول رئيس الوزراء البريطاني السابق تشرشل (أقل الوسائل سوءًا في الحكم)؟!
الإسلام -وبشكل مبدئي- لا يقف موقفا متباعدا من الإنجازات الإنسانية التي تقدم إضافات نافعة للحياة، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الحكمة ضالة المؤمن يأخذها أينما وجدها). وهو الحديث الذي يشير بدقة ووضوح إلى أن المسلم إنما هو كائن يسعى إلى نشدان الحقيقة التي هي ثمرة السعي الإنساني الجاد في هذه الحياة سواء أكان هذا السعي منطلقا من منهج إسلامي أم من مناهج أخرى.
ونحن نؤمن بأن اعتماد المبادئ الإسلامية في البحث عن الحقيقة له دوره الفاعل في إيصالنا إليها من أقصر الطرق بصورة أشمل وأسرع مما لو حاولنا أن نكتشفها بمعزل عن مبادئ الإسلام، فإذا كانت الديمقراطية بهذا المعنى إنجازا إنسانيا فالإسلام يدعو إلى الأخذ الجدي بكل معطيات ومكونات النظام الديمقراطي؛ لأن ذلك يتصل اتصالا وثيقا بما دعا إليه الإسلام على مستوى الشورى.
تعقد آليات الشورى في العصر الحديث
والشورى مبدأ إسلامي أساسي ورد في القرآن الكريم مرتين في قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}[الشورى]. وقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}[آل عمران]. ويبدو لنا الحزم والقطع في التوجيه: (وشاورهم في الأمر)، و(وأمرهم شورى بينهم). وجمله أمرهم شورى بينهم (إخبار)، والإخبار في اللغة كما يقول علماء البلاغة هو أعلى أشكال الحسم والتحديد، وبالتالي فالكلام هنا لا يمكن حمله على الاختيار والمفاضلة، بمعني إذا شاء الحاكم أن يشاور فعل، وإن لم يشأ لم يفعل، فصيغة الأمر هنا واضحة جدا.
في مرحلة دولة المدينة كان العالم الإسلامي محصورا في مدينة واحدة ويمكن أن تجرى الاستشارات في يوم وليلة دون آليات معقدة لتحقيق الشورى.. الآن وبعد اتساع المجتمع الإسلامي وتباعد الأقطار الإسلامية تعقدت آليات تمثيل الشورى.. وكان لا بد من وضع نظام وآلية دقيقة وواسعة، هذه الأنظمة والآليات لا تختلف مع ما نسميه اليوم النظام الديمقراطي.. لا أتصور أن هناك اختلافا إذ كيف تتحقق الشورى دون مجلس شورى؟ وكيف يتكون هذا المجلس إذا كنت أريد أن استشير شعبا تعداده بالملايين؟ لا بد إذن أن تكون هناك انتخابات.. إذن الديمقراطية نفسها هي مبدأ الشورى نفسه.. الشورى فريضة ملزمة، ولو أن المسلمين التزموا بها وحققوها في حياتهم على مدار التاريخ لتطور نظام الشورى ولأصبح له آليات تحدده وتوسع إطاره ومساحته ولأمكن للمسلمين أن يكتشفوا الديمقراطية قبل أن يكتشفها الغرب مع توافر ضمانات قيمية وأخلاقية تتصل بالإسلام تصونها وتحميها من أي تلاعب.
أهمية النظام الجمهوري
الحديث عن الديمقراطية يدعونا للحديث عن النظام الجمهوري الذي هو مجرد نظام وليس نظرية فلسفية أو وجهة نظر للكون والحياة والإنسان، إنه حصيلة ما توصلت إليه تجارب الفكر السياسي وتجارب النظام السياسي في كثير من البلدان التي سبقتنا للبحث عن الأنظمة الفاعلة التي تحقق أفضل إدارة سياسية للمجتمع.
النظام الجمهوري مجرد إطار للنظام ولا يدخل في صميم الأفكار التي يقوم عليها هذا النظام وبالتالي فمن الطبيعي أن نستفيد من هذه الأنظمة التي توافرت عبر التاريخ البشري ووصلت إلينا على النحو الذي نعرفه اليوم، والإسلام يدعونا للاستفادة من التاريخ، ولو كان للإسلام نظام خاص ومحدد في الحكم والسلطة لكان ذلك حريا أن يظهر في المصادر الأساسية للتشريع الإسلامي (الكتاب والسنة) الذي دعا لأن يكون الحكم إسلاميا مطبقا لشريعة الإسلام، ولكنه لم يتطرق إلى شكل النظام وبالتالي فإن المسلمين الأوائل كانوا أكثر تحررا عندما اعتمدوا أشكال التنظيم الذي استفاد بصورة واضحة من التجارب السابقة لهم واستفادوا من التنظيمات التي سبقتهم إليها الحضارات الأخرى التي أقامت دولا سابقة على الدولة الإسلامية.
هذا يجعلنا نؤكد أكثر ضرورة الاستفادة من النظام الجمهوري الذي هو حصيلة تجارب أمم سبقتنا في مجال الفكر والتنظيم السياسي.. وأن نستفيد من تجاربها في هذا المجال، بل نسعى لتطوير النظام الجمهوري نفسه فنضيف إليه عناصر جديدة كان الآخرون قد أضافوها لكي يصل إلينا النظام الجمهوري بشكله الراهن.
وعندما يسعى المسلمون لإقامة نظام إسلامي فإنهم يريدون صيغة عملية وفاعلة لهذا النظام، وإذا ما أرادوا ابتكار نظام جديد فإنهم سيقعون في مشكلة التجربة والخطأ ولا يستفيدون إذ ذاك من تجارب الآخرين.
في مرحلة الحكم الراشد تم تأسيس المسار الإسلامي لمسألة الحكم والسلطة وكان مسارا يؤسس لنظام العدل والحريات.. يؤسس لإسلام يتسع لاختيار البشر.. ذلك أن الإسلام لا يعرف سلطة (الحق الإلهي).. إسلام يقول إن البشر هم الذين يختارون وإن هذا الاختيار ملزم لهم وللحاكم.. وأتصور أنه لو استمرت مرحلة الحكم الراشد لكانت الإنسانية اكتشفت الديمقراطية قبل النهضة الأوروبية الحديثة كما ذكرت ولاكتشفت منظومة الحقوق -التي يفخر الغرب بإنجازها- قبل ذلك بقرون طويلة.
لكن من الأسف أن الاستبداد فوت على المسلمين فرصة أن يقودوا هذه الاكتشافات العظيمة وأن يقودوا مسألة الحريات في العالم ويقودوا مسألة حقوق الإنسان على مستوى العالم ويقودوا اكتشاف النظم الديمقراطية من خلال الأسس والمبادئ التي أرستها الشريعة الإسلامية وأرساها النص الإسلامي.
الإسلام نقيض الاستبداد.. وهو البوابة الكبرى لتحرير الإنسان.. الناس عندما اتبعت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم اتبعته بوصفه محررا للناس ولذلك كانوا يأخذون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد اتبعه الأراذل من الناس والمسحوقون من البشر بعد أن وعدهم بالحرية التي كانوا يفتقدونها؛ لذلك كانوا أقدر الناس على فهم المكون الجوهري لهذه العقيدة بوصفها عقيدة تحرير للإنسان.. فكيف يمكن أن يصادر هذا التحرير بإقامة حكومات مستبدة باسم الإسلام نفسه؟! وكيف يمكن أن تقوم حكومات لكي تصادر حريات الناس باسم الإسلام؟!
إن موقف الإسلام من الاستبداد هو موقفه من الكفر وهو موقفه من الانحراف عن الطريق إلى الله سبحانه وتعالى؛ لذلك كان لا بد من تحرير فكرة (السلطة) إسلاميا، وتحويلها إلى سلطة تمكن الإنسان المسلم من إطلاق ملكاته وقدراته من أجل أن يصل إلى الغايات التي رسمها الله سبحانه وتعالى للمسيرة الإنسانية.
ضوابط الحرية في نظام الشورى
الإسلام يضمن حرية الاختيار لمعتنقيه فكل ما في الإسلام من واجبات وأوامر ونواه ومحرمات وأدبيات عامة وفرت أعظم الضمانات لحرية الاختيار بدءًا من اختيار الإسلام نفسه الذي لا يجوز اختياره وفقا للتقليد فالحرية إذن أسبق من الإسلام.. وبها نختار الإسلام.. لذلك قام الإسلام بتوفير أعظم الضمانات لهذه الحرية ولا يوجد في الإسلام ما ينافي مبدأ الحرية على الإطلاق، والمؤكد أنه لا توجد حرية مطلقة في الحياة، ويجب أن نفرق بين ضبط حدود الحرية من خارج قواعدها (وهذا هو تعريف الاستبداد) وضبط حدودها من داخل قواعدها (وهذا هو تنظيم الحرية) وكل نظام بالضرورة له آلياته لتنظيم الحرية.
والإسلام يضبط الحرية من داخل قواعدها، فالإسلام –مثلا- يضبط حرية معتنقه تجاه لعب القمار وشرب الخمر، ويمنع ويعاقب فهل في هذا تقييد لحرية الإنسان؟
إن ذلك هو عين الحماية لحرية الإنسان فمن اعتنق الإسلام بكل حرية عليه أن يلتزم بأحكامه فإذا خولفت أحكامه فقد خولف مبدأ اعتناق الإسلام نفسه، فالمحرمات التي يفرضها الإسلام على معتنقيه هي ضبط للحرية من داخل قواعدها وليس من خارج قواعدها، وهذه نقطه مهمة للغاية.
وبهذا المعنى فإن الإسلام وبكل أحكامه هو ضمانة لحرية الإنسان؛ الإسلام أراد من المسلم أن يختار سلطة العدل وأن يختار النظام الذي يبسط العدل بين الناس، والمجتمع المسلم حر في اختيار النظام الذي يرى أنه يؤمن له الحد الأقصى من العدل الذي هو الغاية من النظام السياسي وتحقيق هذه الغاية يتطلب الأخذ بالمتغيرات التاريخية.
الشعب حر في اختيار النظام الذي يريده دون أن يكون ذلك على حساب عقيدته الإسلامية.
يتبــــع ...>>>>>>>>>>>